[size=16][center][size=25]: ا[color:2927=magenta]لعقل بين التكليف و الإذعان[/color]
[center][color:2927=magenta][size=25]ابن الجوزي رحمه الله[/size][/color][/center]
[/size]
[size=21][color:2927=darkorchid][font:2927=comic sans ms]
قلت يوماً في مجلسي : لو أن الجبال حملت ما حملت لعجزت . فلما عدت إلى
منزلي ، قالت لي النفس : كيف قلت هذا ؟ و ربما أوهم الناس أن بك بلاء و
أنت في عافية في نفسك و أهلك !!. و هل الذي حملت إلا
التكليف الذي يحمله الخلق كلهم ؟ فما وجه هذه الشكوى ؟
فأجبتها : إني لما عجزت عما حملت ، قلت هذه الكلمة لا على سبيل الشكوى ، و لكن للاسترواح .
و قد قال كثير من الصحابة و التابعين قبلي : ليتنا لم نخلق ، و ما ذاك إلا
لأثقال عجزوا عنها . ثم من ظن أن التكاليف سهلة ، فما عرفها .
أتى يظن الظان أن التكاليف غسل الأعضاء برطل من الماء ، أو الوقوف في محراب لأداء ركعتين ؟ هيهات ! هذا أسهل التكليف .
و إن التكليف هو الذي عجزت عنه الجبال ، و من جملته : أنني إذا رأيت القدر
يجري بما لا يفهمه العقل ، ألزمت العقل الإذغان للمقدر ، فكان من أصعب
التكليف . و خصوصاً فيما لا يعلم العقل ، معناه كإيلام الأطفال ، و ذبح
الحيوان ، مع الاعتقاد بأن المقدر لذلك و الأمر به ، أرحم الراحمين .
فهذا مما يتحير العقل فيه ، فيكون تكليفه التسليم ، و ترك الاعتراض ...!!
فكم بين تكليف البدن و تكليف العقل ... ؟!
و لو شرحت هذا لطال ، غير أني أعتذر عما قلته ، فأقول عن نفسي و ما يلزمني حال غيري .
إني رجل حبيب إلي العلم من زمن الطفولة فتشاغلت به ثم لم يحبب إلى فن واحد
منه ، بل فنونه كلها . ثم لا تقتصر همتي في فن على بعضه ، بل تروم
استقصاءه . و الزمان لا يسع ، و العمر أضيق ، و الشوق يقوى ، والعجز يظهر
، فيبقى وقوف بعض المطلوبات حسرات .
ثم أن العلم دلني على معرفة المعبود ، و حثني على خدمته ، ثم صاحت بي
الأدلة عليه إليه ، فوقفت بين يديه ، فرأيته ، في نعمه ، و عرفته بصفاته ،
و عاينت بصيرتي من الطافه مادعاني إلى الهيمان في محبته ، و حركني إلى
التخلي لخدمته ، و صار يملكني أمر كالوجد كلما ذكرته ، فعادت خلوتي في
خدمتي له أحلى عندي من كل حلاوة . فكلما ملت إلى الانقطاع عن الشواغل إلى
الخلوة ، صاح بي العلم أين تمضي ؟ أتعرض عني و أنا سبب معرفتك به ؟
فأقول له : كنت دليلاً و بعد الوصول يستغني عن الدليل .
قال : هيهات ! كلما زدت ، زادت معرفتك بمحبوبك ، و فهمت كيف القرب منه . و
دليل هذا أنك تعلم غداً ، أنك اليوم في نقصان . أو ما تسمعه يقول لنبيه
صلى الله عليه و سلم و قل رب زدني علماً .
ثم ألست تبغي القرب منه ؟ فاشتغل ، بدلالة عباده عليه ، فهي حالات
الأنبياء عليهم الصلاة و السلام . أما علمت أنهم آثروا تعليم الخلق ، على
خلوات التعبد ، لعلمهم أن ذلك آثر عند حبيبهم ؟
أما قال الرسول صلى الله عليه و سلم ، لعلي رضي الله عنه لأن يهدي الله بك رجلاً ، خير لك من حمر النعم ؟ .
فلما فهمت صدق هذه المقالة ، تهوست على تلك الحالة ، و كلما تشاغلت بجمع
الناس ، تفرق همي . و إذا وجدت مرادي من نفعهم ، ضعفت أنا ، فأبقى في حيز
التحير متردداً ، لا أدري على أي القدمين أعتمد . فإذا وقفت متحيراً صاح
العلم : قم لكسب العيال ، و ادأب في تحصيل ولد يذكر الله . فإذا شرعت في
ذلك قلص ضرع الدنيا وقت الحلب ، و رأيت باب المعاش مسدوداً في وجهي ، لأن
صناعة العلم شغلتني عن تعلم صناعة .
فإذا التفت إلى أبناء الدنيا ، رأيتهم لا يبيعون شيئاً من سلعها إلا بدين
المشتري . و ليت من نافقهم أو راءاهم نال من دنياهم ، بل ربما ذهب دينه و
لم يحصل مراده . فإن قال الضجر : اهرب . قال الشرع : كفى بالمرء إثماً أن
يضيع من يقوت .
و إن قال العزم : انفرد ، قال : فكيف بمن تعول ؟
فغاية الأمر أنني أشرع في التقلل من الدنيا ، و قد ربيت في نعيمها . و
غذيت بلبانها ، و لطف مزاجي فوق لطف وضعه بالعادة . فإذا غيرت لباسي و
خشنت مطعمي ، لأن القوت لا يحتمل الانبساط ، نفر الطبع لفراق العادة ، فحل
المرض فقطع عن واجبات ، و أوقع في آفات .
و معلوم أن لبن اللقمة بعد التحصيل من الوجوه المستطابة ، و تخشينها لمن لم يألف سعى في تلف النفس .
فأقول : كيف أصنع و ما الذي أفعل ؟ و أخلو بنفسي في خلواتي ، و أتزيد من
البكاء على نقص حالاتي . و أقول : أصف حال العلماء ، و جسمي يضعف عن إعادة
العلم ، و حال الزهاد ، و بدني لا يقوى على الزهد ، و حال المحبين و
مخالطة الخلق تشتت همي ، و تنقش صور المحبوبات من الهوى في نفسي ، فتصدأ
مرآة قلبي .
و شجرة المحبة تحتاج إلى تربية في تربة طيبة تسقى ماء الخلوة من دولاب
الفكرة . و إن آثرت التكسب لم أطق . و إن تعرضت لأنباء الدنيا ـ مع أن
طبعي الأنفة من الذل و تديني يمنعني ـ فلا يبقى للميل مع هذين الجاذبين
أثر . و مخالطة الخلق تؤذي النفس مع الأنفاس !!!
و لا تحقيق التوبة أقدر عليه ، و لا نيل مرتبة من علم أو عمل أو محبة يصح لي . فإذا رأيتني كما قال القائل :
ألقاه في اليم مكتوفاً و قال له إياك إياك أن تبتل بالماء
تحيرت في أمري ، و بكيت على عمري ، و أنادي في فلوات خلواتي بما سمعته من بعض العوام ، و كأنه وصف حالي :
[color:2927=magenta] واحسرتي كم أداري فيك تعثيري مثل الأسير بلا حبل و لا سيري
ما حيلتي في الهوى قد ضاع تدبيري لما شكلت جناحي فلت لي طيري
ابن الجوزي رحمه الله
[/color][/font][/color][/size][/center]
[/size]